الاخبار

أي أثر للمصالحة بين تركيا وواشنطن على التطبيع مع سوريا؟

وكالة أوقات الشام الاخبارية / shaamtimes.com

عرب الرنتاوي
لم يشأ ديمتري بيسكوف تأكيد ما صدر عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من تصريحات، كشف من خلالها عن زيارة سيقوم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأنقرة الشهر المقبل. المتحدث باسم الكرملين لم ينف نبأ الزيارة، لكنه شدد على أن موعداً محدداً لإتمامها لم يتقرر بعد.

ربما يكون بيسكوف محقاً بشأن عدم تحديد موعد دقيق للزيارة، وربما أراد أن يبعث برسالة “عتب” أو “غضب” إلى الرئاسة التركية، بعد ما صدر عنها من مواقف لم تسقط برداً وسلاماً على موسكو. الراجح أن العلاقات التركية – الروسية ليست في أحسن أحوالها اليوم، لكن الراجح أيضاً أن الزيارة ستتم، بصرف النظر عن موعدها. فما بين البلدين من مصالح وحسابات معقدة، أكبر كثيراً مما يباعد بينهما.

لم تُخف موسكو انزعاجها من الحماسة التركية لتوسيع “الناتو”، فهي تَعُدّ أمراً كهذا تهديداً جسيماً لأمنها القومي، ومحاولة لتطويقها والاقتراب من “عمقها الاستراتيجي”. الرئيس التركي يُبدي حماسة ظاهرة لتوسيع “الناتو”، ولا سيما بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو أسقط الفيتو في وجه انضمام السويد بعد أن كان أعطى ضوءاً أخضر لانضمام فنلندا، معللاً ذلك، بـ”حق الحلف” في ضم أعضاء جدد، و”حق” الدول المرشحة في ممارسة قرارها “السيادي”. موسكو وأنقرة على طرفي نقيض حين يتعلق الأمر بزحف الحلف الأطلسي شرقاً ووصوله إلى تخوم روسيا الاتحادية.

إلّا أن قضية انضمام أوكرانيا إلى الحلف هي المصدر الأكبر للقلق والانزعاج الروسيين من الرئيس إردوغان، الذي رحب بخطوة من هذا النوع، وعدّ كييف مؤهلة لإتمامها، مخالفاً، في موقفه هذا، مواقف دول كبرى ورائدة في “الناتو”، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، التي تميل إلى إرجاء المسألة إلى ما بعد صمت المدافع في الجبهة الأوكرانية – الروسية، ومفضلة تقديم بدائل وضمانات، من خارج “سلة الحلف وميثاقه”.

تصريحات إردوغان، حتى إن عدّها البعض “مجاملة فائضة عن الحاجة” لضيفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلا أنها ضربت على وترٍ حساسٍ عند الكرملين، الذي كان أدرج “عمليته العسكرية الخاصة” كرد فعل استباقي على محاولات مدّ الحلف إلى أوكرانيا، وإصابة أمن روسيا في مقتل.

في أيّ حال، انتهت قمة الحلف في العاصمة الليتوانية، ويمكن القول إن الخلاف الروسي التركي بشأن مسألة توسيع الحلف وضم أوكرانيا إلى خنادقه، بات يتوافر على فسحة زمنية إضافية، للتعامل معه واحتواء آثاره، لكن من دون شك، فإن “مدماكاً” في جدار الثقة بين الرجلين سقط.

وزاد في الطين بلّة إقدام زيلينسكي، متباهياً، على نشر صور له من على متن الطائرة التي أقلته في طريق العودة إلى بلاده، رفقةَ قادة “كتيبة آزوف” القوميين المتشددين، والَّذين كانت موسكو سلمتهم إلى أنقرة في سياق صفقة لتبادل الأسرى، شريطة الاحتفاظ بهم عندها حتى نهاية الحرب، لكن إردوغان نكث بوعده، وقام بتسليمهم إلى غريم روسيا الأول، من دون إخطار أو إشعار، وفقاً لبيسكوف.

والحقيقة أن موسكو لا تنظر إلى هذه الوقائع بصفتها أحداثاُ متفرقة أو تصريحات للاستهلاك الإعلامي، بل تدرجها في سياق ما ترى أنه “انعطافة” تركية صوب الغرب؛ واشنطن “الناتو” وبروكسل، تسارعت بعد فوز إردوغان الصعب في الانتخابات الرئاسية، فالعلاقات التركية تتحرك بتسارع على مسار “صفقة أف 16” ورفع العقوبات، وإردوغان وضع قراره بشأن تسهيل انضمام السويد إلى “الناتو” بصفته “دفعة أولى ” من حساب انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو حثّ الرئيس بايدن على مساعدته على التذليل والرفع للعوائق التي حالت دون هذه “العضوية” من قبلُ، وقد تحول دونها من بعد.

روسيا لم تخف تفضيلها عودة إردوغان إلى ولاية جديدة في الانتخابات الأخيرة، وهي تحمست كثيراً لتحفيز مسار المصالحة السورية – التركية، وترتيب قمة تجمعه بالرئيس الأسد قبل الانتخابات، علّها تساهم في تحسين حظوظه الانتخابية، ومن بوابة تحريك ملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو الملف الذي كان محورياً في الحملات الانتخابية إلى جانب تداعيات الزلزال وأزمة الليرة التركية.

ودفعت حماسة موسكو لعودة إردوغان وحزبه إلى السلطة، في مواجهة “المعارضة ذات الميول الأطلسية” الظاهرة، حداً دفع هذه المعارضة إلى اتهام الكرملين بالتدخل في الانتخابات التركية، الأمر الذي نفته موسكو وسخرت منه حملة إردوغان الانتخابية. وفي ظني أن الكرملين، على رغم تفضيله “السلطان” وحزبه، كان يدرك أن ثمة حدوداً للرهان على رجلٍ أتقن فنون الرقص فوق حبلٍ مشدودٍ بين الشرق والغرب، وسجّل أكبر وأوسع الاستدارات والتقلبات في الأعوام العشرة الفائتة، لكنه – أي الكرملين – كان يعرف، مع ذلك، ما الذي ينتظره في حال فوز خصومه في انتخابات مصيرية لمستقبل تركيا وتموضعها للأعوام المقبلة.

في مطلق الأحوال، فإن الكرملين راهن ويراهن على شبكة المصالح العميقة التي تربط تركيا بروسيا، في كل الحقول، من الطاقة النووية والغاز والنفط إلى التجارة والسياحة، وليس انتهاءً بحبوب روسيا وأوكرانيا. وهو يبدو مطمئنّاً إلى أن أنقرة لن تذهب حتى آخر الشوط في التماهي مع طروحات زيلينسكي و”الناتو” وواشنطن وبروكسل، فهي، إن فعلت، فإنها تكون كمن أطلق النار على قدميه، وضيّع على نفسه فرصة استثمار “الجيوبوليتك” ومندرجاته في سياق الحرب الأوكرانية المستعرة والصراع المحتدم على هوية النظام العالمي.

كما أن موسكو “تعوّل” كثيراً على “الإرث الثقيل” من انعدام الثقة بين إردوغان وقادة الاتحاد الأوروبي، وتردد واشنطن في منح تركيا المكانة التي تتطلع إليها في منظومة القوى الغربية. ولا تستبعد أن تصطدم محاولات تركيا خرق الجدران الغربية، ودخول الاتحاد الأوروبي من أوسع أبوابه، بجدران الصد والرفض الغربيين، المبنيةِ على فجوة لم تُردَم من الخلافات وتباين الأولويات، وعوامل دينية وثقافية عطّلت انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي من قبلُ، وقد تعطلها من بعدُ.

الاختبار السوري للتحولات التركية
لا يستبعد المراقبون، الروسي بصورة خاصة، أن تكون دوائر صنع القرار في أنقرة، توصلت إلى خلاصة، مفادها أن انهماك روسيا في حرب كونية في أوكرانيا يتيح لها إعادة صياغة قواعد العلاقة بين البلدين، وبالذات في الساحة السورية، وأنه سيكون في مقدور تركيا، التي لطالما تملصت من ترجمة اتفاقات أستانا وتفاهمات سوتشي، أن تملي قواعد جديدة، تتيح لها الخروج بأكبر قدرٍ من المكاسب في أيّ تسويات أو مصالحات في سوريا ومعها.

ويفترض أصحاب هذه التقديرات أن إردوغان وحزبه باتا، اليوم، أكثر تحرراً من “ضغوط” الرأي العام وحسابات صناديق الاقتراع، وأن صفة الاستعجال قد نُزعت عن ملف اللاجئين الثقيل، وأن في مقدور أنقرة التفاوض مع دمشق وموسكو وطهران، من موقع أكثر ارتياحاً. والحقيقة أن هذه الفرضية تفسر، إلى حد كبير، وإن “بأثر رجعي”، لماذا أبدت دمشق تحفظاً بشأن تسريع مسار المصالحة مع أنقرة، على رغم الإلحاح الروسي، ولماذا كانت تعتقد أن في مقدورها إتمام صفقة أفضل، مع المعارضة التركية في حال فوزها في الانتخابات، ولماذا تمنّع الأسد عن لقاء نظيره التركي قبل الانتخابات، مكتفياً بلقاءات أدنى مستوى.

لقد كنّا بين من نَظَروا إلى مسار المصالحة السورية التركية، بصفته مساراً ذا اتجاه واحد، لكننا لم نخف يقيننا من أنه سيكون أكثر صعوبة وتعقيداً مع إردوغان شخصياً وحزبه الحاكم. وفي ظني أن التوجهات “الغربية – الأطلسية”، التي نمت مؤخراً على سطح الخطاب السياسي التركي، ستزيد في هذا المسار تعقيداً، والأرجح أن أنقرة ستكون أكثر مراعاة لحسابات الغرب وأولوياته، وأكثر حرصاً على تنسيق مواقفها معه حيال مختلف ملفات الأزمة السورية، ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان على كثبان الإقليم الرملية المتحركة.

الميادين

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى