الاخبار

قصة الحوار العاصف بين الأسد والسادات في دمشق

وكالة أوقات الشام الاخبارية / shaamtimes.com

“اسمع يا أخي حافظ، إذا تبين أن هذه هي المهمة الأخيرة التي سأقوم بها كرئيس جمهورية، وهي زيارة القدس، فسأؤديها وبعدها سأقدم استقالتي إلى مجلس الشعب في مصر وفقًا للدستور. أنا مقتنع بنسبة 100٪ بأهمية تنفيذ هذه المبادرة.”

“ليس لدي نية للقدوم إلى دمشق للتشاجر معك.

دعنا نذهب معًا إلى القدس، وإذا لم تتمكن من القدوم، فأرجوك أن تحتفظ بالصمت ولا ترد علي بالاستنكار والإدانة.

وإذا فشلت، سأكون جاهزًا للاعتراف بأنني كنت مخطئًا، وسأقول لشعبي أن يمنحك فرصة في القيادة.”

لمدة 7 ساعات كاملة، جرى حوار حاد على هذا النحو بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات (1918-1981) ومضيفه في دمشق الرئيس الراحل حافظ الأسد (1930-2000) في 16 و17 نوفمبر / تشرين الثاني 1977، قبل يومين فقط من زيارة السادات الشهيرة إلى القدس.

نقل الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل تفاصيل هذا اللقاء في كتابه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. عواصف الحرب وعواصف السلام” (منشورات دار الشروق المصرية 1996- ص 364-367)، وكانت محصلة حوار طويل أجراه مع الرئيس الأسد. تم ذكر بعض تفاصيل هذا اللقاء في مذكرات الرئيس الراحل أنور السادات “البحث عن الذات”، بالإضافة إلى شهادات ومصادر أخرى.

شكل هذا اللقاء – بالإضافة إلى ما حدث قبله وبعده – نقطة تحول في النزاع العربي الإسرائيلي وفي العلاقات السورية المصرية والمصرية الإسرائيلية فيما بعد.

عاد السادات إلى مصر وتعرض لحملة إعلامية شرسة من قبل الإعلام السوري، ولكن لم يثنيه ذلك عن زيارته الشهيرة للقدس (19-21 نوفمبر / تشرين الثاني 1977). زيارته للقدس وصفها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر (الذي تولى المنصب من 1977 إلى 1981) بأنها حدث تاريخي، مماثل لنزول أول إنسان على سطح القمر.

قبلها بمدة قليلة، قرر الرئيس الراحل أنور السادات الشروع في خطوة جريئة نحو التقارب مع إسرائيل. انطلق هذا السعي بعبارة تصف موقف وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر (1973-1977)، التي تقول: “إن 99% من الصراع العربي الإسرائيلي نفسي”. وكانت هذه الخطوة تجاوزًا نحو كسر الحاجز النفسي، كما وصفها السادات وأتباعه بما لاحق باسم “خطوة جريئة للسلام”، بينما اعتبرها منتقديه “قفزة بهلوانية في الهواء”.

كان غير متوقع أن يُبلِّغ السادات حتى رفيقه في حرب أكتوبر، حافظ الأسد، أو أي شخص آخر بهذه الخطوة قبل وقتها. كما أن القليل من مساعديه كانوا على علم بما كان يُخطط له، ومن بينهم وزير الخارجية إسماعيل فهمي.

السادات كان دائمًا ينتقد “حدة هؤلاء البعثيين ونشافة رؤوسهم”. واستفزته بشكل خاص الحملة الإعلامية التي شنتها سوريا والاتهامات بـ “الخيانة” بعد قراره بوقف إطلاق النار من جانب واحد خلال حرب عام 1973. وأراد أن يصبح “بطل الحرب والسلام” الوحيد، لا يواجه منافسة في هذا المجال.

بالرغم من التنسيق الظاهر خلال الحرب، لم تشف العلاقات بين دمشق والقاهرة تمامًا من جروح الانفصال السابق (انقلاب 1961). وظلت هناك شكوك قديمة وعميقة في نفوس القادة المصريين حيال حزب البعث واشتباكاته الدائمة. من جهة أخرى، كانت دمشق محتارة إزاء خطوات السادات غير المفهومة والمعلومات المتناثرة حول مسار سري يتبعه مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

في أي لحظة، بدأت هذه الشكوك تتبدد تدريجياً بين الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات قبل حرب أكتوبر. أصبح التنسيق قويًا في بداية المعركة، لكن حدث شرخ عميق بعدما امتنع السادات عن تنفيذ الخطة العسكرية المتفق عليها للوصول إلى خط المضائق في سيناء وما سميت بـ “الوقفة التعبوية” (10-13 أكتوبر / تشرين الأول).

تصاعد هذا الخلاف واشتد بعد اتفاق وقف إطلاق النار واتفاقية فك الاشتباك، ثم بعد مؤتمر جنيف (ديسمبر / كانون الأول 1973) الذي لم تحضره سوريا. وبدا أن السادات يسعى للسيطرة على ملف الحرب والسلام بشكل منفرد.

في الفترة قبل الزيارة، شهدت العلاقات تحسنًا سطحيًا حتى أعلنت القيادة المصرية والسورية تشكيل قيادة مشتركة بين البلدين في 5 فبراير / شباط 1977 “تمهيدا للوحدة الشاملة”. ضمت هذه القيادة الرئيسين و8 من كبار المسؤولين. ومع ذلك، استمرت أسباب الخلاف عميقة في قلوب الزعماء.

في قاعة مغلقة في قصر المهاجرين في دمشق، استمر النقاش الحاد بين الرجلين لمدة 7 ساعات، كما وصفها إسماعيل فهمي في كتابه “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط”. تصاعدت أحيانًا الأصوات وأصبح الجميع يترقب نتائج هذا الاجتماع، الذي لم يكن أبدًا كأي اجتماع ودي آخر يتميز بالضحكات الشهيرة للرئيس الراحل أنور السادات.

وفي تلك القاعة المغلقة، بدت علامات القلق واضحة على وجه حافظ الأسد، ورغم محاولاته الاحتفاظ برصدها، لكنه قال للسادات بكل جدية: “من سيضمن لك أن بيغن (مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك 1977-1983) سيعيد لك الأراضي العربية المحتلة بلا شروط؟ وكيف تعرف أن الإسرائيليين سيلتزمون بالسلام الذي ستقدمه لهم؟”

رد السادات ببساطة مفهومة: “شوف يا أخ حافظ، بكل صراحة، ليس لدي أي ضمانات. ولكنني شعرت بنبضات الإرادة عند الإسرائيليين لقبول مبادرة السلام وإعادة الأراضي التي احتلوها في عام 1967”.

في كتابه “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط”، يشير وزير الخارجية المصري السابق، إسماعيل فهمي، إلى لحظة مميزة خلال اجتماع في المجلس. كان من المقرر أن يلقي الرئيس الراحل أنور السادات خطابًا مكتوبًا، ولكنه بدأ يتحدث على مضض، مشيرًا إلى استعداده للذهاب إلى إسرائيل وزيارة الكنيست والمشاركة في مناقشاتهم.

هذا الكلام أثار دهشة الحضور، خاصة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي حضر الاجتماع. وقبل يوم واحد فقط من الجلسة، أرسل السادات طائرة خاصة لجلب عرفات من ليبيا إلى القاهرة.

عندما عبر عرفات عن استغرابه وغضبه من كلام السادات، رد فهمي بأنها كانت “زلة لسان”، ولكن هذا الحدث أثار توترًا كبيرًا بين الحضور.

في حين لم يكن وزير الحربية الفريق محمد عبد الغني الجمسي مندهشًا كثيرًا من الكلام، إذ سبق وأن ناقشه السادات بشأن زيارة إسرائيل قبل بضعة أيام.

هذه الزلة لسان التي قالها السادات ليست مجرد كلام عابر بل كانت نتيجة تفكير عميق وقرار متوج للرئيس المصري.

تمثل هذه الجملة اللحظة التاريخية التي غيّرت مجرى الصراع العربي الإسرائيلي وأثرت على العديد من الأحداث في العالم العربي. وقد دلّت على استعداد السادات للقيام بخطوات جريئة من أجل تحقيق السلام.

في العاصمة دمشق، شهدنا الرئيس حافظ الأسد في حالة من الغضب والحيرة. في البداية، اعتقد أن خطاب رفيقه في السلاح، الرئيس السادات، كان مجرد إفراط في البلاغة والكلام الرنان الذي اعتاد عليه السادات. لكن في الوقت نفسه، نظرًا لمعرفته العميقة بالرجل، أدرك أن السادات لا يقول إلا ما يعتقده بعمق. لذا، قرر الاتصال به للاستفسار وتذكيره بالاتفاق السابق على زيارة مقررة لمدينة اللاذقية.

يروي الرئيس السادات في كتابه “البحث عن الذات” أن هذا الاتصال جرى قبيل خطابه في مجلس الشعب، حيث أجاب الرئيس الأسد بقوله إنه سيأتي فورًا. وفعلاً، وصل السادات إلى دمشق في السادس عشر من نوفمبر.

بدأ الأسد اللقاء بسؤاله عن معنى ما قاله في خطابه حول زيارة القدس. أجاب السادات بثقة مطلقة: “أنا لا أقول شيئًا لا أعنيه.” وهكذا بدأت مناقشات مشددة استمرت لأكثر من أربع ساعات، لم يتمكن خلالها الأسد من إقناع السادات ولم يتمكن السادات من إقناع الأسد.

لم يدخل الرئيس الراحل في تفاصيل حوارهما أو طبيعة النقاش، ولكنه أكد أن اللقاء كان متوترًا وعصيبًا. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل عودته إلى مصر، لم يحضر الأسد لأنه كان يختلف مع السادات بشدة حول الرؤى والمسارات.

وقد وُصِف هذا اللقاء في الروايات الأخرى بأنه توتر واشتداد غضب أكثر من اللازم. كان السادات قد اتخذ قراره بالفعل، بينما حاول الأسد بدافع عاطفي إقناعه بتراجعه عن الزيارة أو إعادة التفكير فيها. شدة العاطفة تحولت تدريجياً إلى غضب أثر على نبرة الأسد ولغته، وأصبح أقل دبلوماسية وأكثر قسوة.

قال الأسد للضيف الغضبان: “هذه الزيارة ستكون أخطر نكسة في التاريخ العربي. مجرد الذهاب إلى إسرائيل في حد ذاته يمكن أن يُفسر على أنه استسلام، خصوصاً أنه يتم ذلك دون توفير أي تأكيدات أو ضمانات. وأخشى أن تكون هذه النصيحة هي نصيحة أميركية.” رد السادات بأن الفكرة كانت فكرته الخاصة وسيتفاجأ العالم بردها.

تجلى في هذا اللقاء حدة الكلمات والمشاعر والخلافات القديمة بين الرجلين. قام السادات باتخاذ قراره بناءً على معتقداته وأهدافه، بينما حاول الأسد بكل عاطفته تغيير آراءه وإقناعه بالتراجع. وهذا اللقاء الذي بدأ كمحاولة للتوصل إلى تفاهم انتهى بتصاعد الخلاف وانعكاسه على لغة الحوار.

في مدينة دمشق، حاول الرئيس حافظ الأسد إيصال فكرة تذكير ضيفه بالانتصارات التي تحققت في حرب أكتوبر وأن الوضع العسكري والسياسي ليس سيئًا. حاول أن يشجع على الصمود وتحقيق المصالح القومية العليا. ولكن رد الرئيس السادات كان عبارة عن تعليق يشبه التعريض: “هذا الكلام هو ما أبعدنا عن التقدم لسنوات طويلة.” تحول الحديث بسرعة إلى عتاب ولوم حاد، حيث قال الأسد بغضب: “سيكون ما سيفعله استهتارًا وخفة.” رد السادات بسخرية: “إذا كنت مستعدًا للسماح لي بالتحدث نيابة عن سوريا أيضًا، فليكن، وإلا فليس لديك حق النقد.” رد الأسد بغضب: “ما هو الشر الذي أدخل البيت بأكمله؟” وبعد هذا الحوار، انفصلا وكل منهما كان مليئًا بالغضب والغيظ.

ليلة تلك اليوم كانت ثقيلة على الرئيس السادات في مقر إقامته في دمشق. بينما يفكر في مجريات الحوار مع الأسد، شعر بالارتياح لأنه أخبر الأسد بقراره بشكل مباشر. الآن، كان يهتم بترتيبات وتفاصيل الزيارة المقبلة المقررة في 19 نوفمبر.

كانت هذه اللحظات مرهقة أيضًا بالنسبة للرئيس الأسد، حيث تمنى لو لم يتم تقديم هذا القرار من قبل السادات. عقد اجتماعًا عاجلاً مع القيادة العليا ليطلعهم على تفاصيل اللقاء مع السادات ويستشيرهم في الأمور الهامة. قام بعض الأشخاص في الاجتماع بدعوة إلى منع السادات بالقوة من السفر واحتجازه، لكن هذا الاقتراح تم رفضه بسبب المخاوف من العواقب السلبية لاحتجاز رئيس دولة أخرى.

وبينما كان يفكر الرئيس الأسد في هذا الاقتراح، قرر عدم تنفيذه تمامًا بسبب العواقب المحتملة والتي من الممكن أن تؤثر سلبًا على العلاقات مع مصر. كان يعلم أن احتجاز رئيس دولة أخرى سيعتبر إساءة إلى دولة شقيقة، وهو أمر لا يمكن تحمله.

في مساء يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني، وأثناء الرحلة إلى مطار دمشق، ساد الصمت الكثيف داخل السيارة التي كانت تسير عبر الطريق. هذا الصمت أطال الرحلة وزاد من حدة التوتر بين الرئيسين، حيث بدا لهما أن الطريق لا ينتهي أبدًا. وفي تلك اللحظات، تفكر الرئيس حافظ الأسد في القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس السادات، والذي كان من المتوقع أن يقلب المنطقة رأسًا على عقب. من ناحية أخرى، يفكر الرئيس السادات في كيفية استقباله من قبل القيادة الإسرائيلية في القدس وكيف ستؤثر زيارته على الأحداث والمشهد الدولي بأكمله.

كان كل منهما يتمنى أن ينتهي هذا الموقف الصعب بأسرع وقت ممكن، وأخيرًا، قرر الرئيس الأسد كسر الصمت الثقيل بسؤال لضيفه حول موقف الدول العربية وموقف الشعب المصري. رد الرئيس السادات بأن معظم القادة العرب يؤيدونه في السر، وأن الشعب المصري بأكمله يدعمه بنسبة 100% من أجل تحقيق السلام، حتى وإن ذهب إلى أقصى نقطة في العالم.

اكتفى الرئيس الراحل حافظ الأسد بإيصال ضيفه إلى بهو المطار دون أن يودعه على باب الطائرة كما يقتضي البروتوكول، زاد معدل السكر في دمه وارتفع ضغطه، فتداعى على مقعد قريب محاولا التحكم في جسمه وأعصابه.

لم يكن هذا الموقف يمكن تحمله لفترة أطول، حيث كان الرئيس السادات قد تلقى دعوة رسمية من إسرائيل وحدد بالفعل موعدًا لزيارته إلى القدس في مؤتمر صحفي في دمشق. وفي النهاية، تم نقل الرئيس السادات إلى مطار الإسماعيلية بأمان بعد يومين، وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، طار من جديد إلى القدس وسط حضور أكثر من 80 صحفيًا ومراسلًا، وذلك دون مرافقة وزير الخارجية إسماعيل فهمي الذي استقال من منصبه. هذه الزيارة الفاجعة أثرت بشكل كبير على المنطقة وشكلت مفصلًا مهمًا في تاريخ الصراع الإسرائيلي العربي وسعي السادات نحو تحقيق السلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى