نجوم و مشاهير

الكوميديا السورية بعد الأسد.. الخوف من “الشرعيين” لا من الشرع!

في مقابلة قديمة، مؤرخة في سبتمبر من العام 2024، وقبل وفاته بسنتين، قال الشاعر والكاتب المسرحي السوري الساخر، محمد الماغوط، لمحاوره اللبناني، متوجها إلى اللبنانيين من قلب بيته في العاصمة السورية دمشق: “أيها اللبنانيون تمسكوا بكعب حذاء الحرية المتبقي لكم!”.

الماغوط، الذي كتب العديد من المسرحيات النقدية الساخرة التي نالت جماهيرية كبيرة مثل “كاسك يا وطن” من بطولة دريد لحام، كان بذكائه المشهود، يقول في كلامه عن لبنان، إن ما يمتلكه اللبنانيون من مساحة حرية، يفتقده السوريون بسبب طبيعة الحكم البعثي الذي كان يحكم البلدين.

بعد أكثر من عشرين عاماً على تلك المقابلة، يقول كوميدي سوري شاب يدعى شريف الحمصي في مقابلة مع “الحرة”، وهو يقف على مسرح في دمشق، إنه يشعر بـ”الحرية الحقيقية على المسرح” للمرة الأولى، مشيرا إلى قدرته الآن على قول نكات ومواد كوميدية كان يحتفظ بها ليقولها فقط عندما يقدم عروضه في لبنان.

إذا أتيح للماغوط سماع هذا الكلام اليوم، لا بد أنه سيبتسم في قبره. فقد تبدلت الأمور كثيراً، وما كان مستحيلاً في زمن بشار الأسد أصبح ممكناً، وخرجت الكوميديا السورية من قبضة “الأبد”، إلى فضاء الاحتمالات.

في قلب العاصمة السورية دمشق، يقف الحمصي على خشبة المسرح مع فرقته “ستيريا كوميدي”، التي تحمل في اسمها صدى الوضع السوري القائم بين “سوريا” و”هستيريا”، كمن يقف بين مرحلتين، تتغير فيهما معالم الكوميديا السورية.

بعد زوال “بلاطة” الحقبة السابقة، التي كانت تقبع بثقلها على صدر السوريين، تنفس المشهد الكوميدي السوري الساخر الصعداء، ليجد نفسه في مفترق طرق بين حرية التعبير الوليدة وتحديات مجتمع لا يزال يتلمس طريقه نحو تقبل النقد مع نظام جديد لا يزال قيد الاختبار. وبينما يرى البعض في هذه المرحلة فرصة ذهبية لإعادة تشكيل الفن الساخر، يخشى آخرون من أن تتحول الحرية إلى قيد جديد، أو أن تعيد الأيام صياغة ديكتاتور بطعم مختلف.
“تفاءلوا بالسخرية تجدوها”

من السويد، تحدثت “الحرة” مع فنان الكاريكاتور السوري سعد حاجو. على الباب في الخلفية حيث يجلس حاجو بمواجهة كاميرا حاسوبه، صورة كاريكاتورية لبشار الأسد، وهي نسخة متحولة من نسخ كثيرة رسمها حاجو للديكتاتور السوري طوال أكثر من عقدين. أخذ حاجو بعد سقوط الأسد إجازة من الرسم، ويحضّر لكتاب يجمع فيه رسوماته التي وثقت لحكم بشار الأسد وتحولاته وانعكاس هذه التحولات على أسلوب حاجو وعلى الشكل الكاريكاتوري لشخصية بشار، منذ استلامه السلطة في العام 2000 وحتى سقوطه في ديسمبر من العام 2024.

يشكل الكاريكاتور نوعاً فنياً بذاته، لكنه يعتمد بشكل أساسي على السخرية، وقد كان له دور كبير كفنّ في الثورة السورية، وتعرض رسامو الكاريكاتور للملاحقة الأمنية والاعتداءات والاعتقال وحتى القتل. أحد رسامي الكاريكاتور السوريين، ويدعى علي فرزات، كُسّرت أصابع يده التي يرسم بها من قبل عناصر تابعة للنظام بسبب رسوماته.

يعتبر حاجو نفسه محظوظاً لأنه استطاع السفر إلى السويد حيث يعيش منذ سنوات، واستطاع أن يرسم بسقف عال، من دون خوف على أمنه الشخصي.

عايش حاجو رقابة النظام السابق خلال عمله في لبنان، وتحايل على الرقابة مرات عديدة لرسم الأسد، والسخرية من مسائل تتصل به. بعد قيام الثورة، رسم كاريكاتيرا يصور الفنان السوري الساخر نهاد قلعي وهو يقول جملته الشهيرة بتصرّف: “اذا اردنا أن نعرف ماذا يحدث في سوريا علينا أن نعرف ماذا يحدث في درعا”. اعتذرت الصحيفة التي كان يرسم لها في لبنان عن نشر الكاريكاتير لأنه يتجاوز خطوطاً حمراء كان النظام السوري يستطيع فرضها حتى على صحف لبنانية.

المرحلة الجديدة لا يبدو أنها تُقلق حاجو، لأنه يعتبر ألت أحد يستطيع إيقاف أو منع السخرية، وهي سمة إنسانية لا يمكن قمعها. بل على العكس يبدو حاجو متفائلاً بوجود جيل جديد خبر السخرية وفهم أهميتها ودورها، ولديه أدواته الخاصة والجديدة في التعبير عنها. يقتبس عبارة استخدمها في أحد رسوماته، ويقول إنه يعتمدها دليلاً في سيرته المهنية: “تفاءلوا بالشارع تجدوه”.
ارتفاع سقف الحرية ولكن…

يمثل شريف الحمصي، الذي يعيش في دمشق، مع أليكس معوض، الفنان الكوميدي الذي يعيش في باريس، نموذجين من الجيل “الساخر” الجديد. يتفق الشابان على أن سقوط نظام الأسد قد فتح “مساحة أكبر للعمل” و”للتحدث بالسياسة”، وهو أمر لم يكن متاحاً في السابق. كذلك يرى معوض أن “سقف الحرية قد ارتفع في سوريا”، وأن الناس أصبحوا ينتقدون بحرية أكبر، بعد سقوط النظام السابق.

لكن تبرز تحديات مجتمعية جديدة. يرى أليكس أن المشكلة الأكبر حالياً تكمن في “المجتمع نفسه، الذي لا يتقبل النقد المتنوع بسبب تأثير حزب البعث السابق، الذي أدى إلى غياب ثقافة الحوار وعدم القدرة على التعبير عن الرأي”. كما يعاني أليكس من “ردود فعل سلبية من بعض الجماهير، خاصة تلك التي كانت تدافع عن بشار الأسد وأصبحت الآن تدافع بشدة عن أحمد الشارع”، مما يثير مخاوفه من “صناعة ديكتاتور جديد”.

حكاية الكوميديا السورية مع الرقابة قديمة، لكنها بدأت تأخذ شكلها المعروف مع مرحلة حكم البعث في السبعينيات، كما يشرح الكاتب والباحث السوري علي سفر، فـ”مع الحمولة الإيديولوجية البعثية، صار هناك سيطرة أمنية على المجتمع”.

يذكر سفر تجارب مثل “مسرح الشوك”، الذي كان دريد لحام أبرز وجوهه، ومحاولات انتقاد المظاهر السائدة، لكنه واجه تياراً متشدداً من البعثيين، لكن حافظ الأسد، على ما يقول سفر، كان يسمح بهذا النوع من الكوميديا نكاية بالضباط البعثيين المتشددين، وكاستراتيجية كانت تعرف بـ”المسرح التنفيسي”، وهو المسرح الذي يلعب ضمن مساحة المتفق عليه ضمن الخطوط الحمر التي وضعتها السلطة.

يشرح سفر أكثر عن هذا النوع من الكوميديا الذي شاع في سوريا في زمن حكم البعث: “ممكن أن تنتقد الحالة العامة، لكن لا يمكنك أن تشخصن النقد لأي شخصية حاكمة بعينها، حتى تضمن أن يقبل عرض مسرحيتك او مسلسلك التلفزيوني”.

ومن نتائج هذا النمط من الكوميديا، “تحول هؤلاء الأشخاص، تحت الطاولة، إلى شركاء غير معلنين للسلطة، وقد استفادت منهم السلطة للأسف”، على حد تعبير سفر.

سعد حاجو من جهته يرى ان النموذج الذي مثله الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، هو في الحقيقة نموذجين. يعتقد حاجو أن قلعي دفع ثمن شخصيته المتمردة، وأصيب بالشلل بعد أن ضربه أحد الأشخاص بكرسي على رأسه بعدما تلاسن معه بسبب مناداته بلقبه (حسني البورازان)، ومات ببطء وحيداً، فيما أكمل لحام مشواره الفني تحت سقف النظام حتى سقوطه.

ويرى حاجو أن غياب السخرية ومنع النقد في زمن حافظ وفي زمن بشار هو الذي تسبب في انهيار النظام في النهاية، وليس العكس. لهذا يعتقد أن السلطة الذكية هي التي تسمح بنقد حقيقي وسخرية حقيقية.

حتى في عهد بشار الأسد، ورغم ارتفاع منسوب النقد في بعض الإنتاجات الخاصة مثل “مرايا” و”بقعة ضوء”، كانت الرقابة تحذف الرسائل المبطنة، وكان “من المستحيل انتقاد حافظ أو بشار”، على ما يؤكد سفر.

اليوم، بينما تقول الرقابة “أنها لن تكون عائقاً أمام الكوميديا، ولن تفرض خطوطاً حمراء”، يحذر سفر من سيناريو جديد: “قد تلجأ إلى إسناد الرقابة إلى المجتمع، بمعنى أن تبرر المنع او التقييد بأن المجتمع لا يتقبل ذلك”، لتنتهي بأن “تتبنى السلطة رقابة المجتمع”.

يصف سفر “الأرضية الموجودة حاليا في سوريا” بأنها “مزعجة عموماً، لان مؤيدي الإدارة الجديدة، لا يميزون بين الانتقاد والعداوة”، وهذا يعود إلى “حرصهم على إنجاح تجربة أحمد الشرع في الحكم”.
السخرية من خليفة الشرع؟

تتجه الكوميديا السورية نحو أشكال جديدة، أبرزها الستاند أب كوميدي. يصف الحمصي هذا النوع بأنه “عصري واجتماعي ومن الشارع”، ويؤكد أنه وفرقته يتعاونون مع “هيئة الدراما ووزارة الأعلام”.

من جانبه، يسعى أليكس، المتحدر من أسرة مسيحية في حلب ويدرس هندسة الطاقة البديلة في فرنسا، إلى تطوير الستاند أب كوميدي في سوريا “ليتناسب مع جيل الشباب المتأثر بالكوميديا العالمية”. هو يعتبر الكوميديا شغفاً، يطمح إلى تطويره ليكون مهنته في المستقبل، خصوصاً أنه يرى أرضية لتقبل الكوميديا التي يقدمها.

ومع ذلك، يؤكد على ضرورة “مراعاة حساسية المجتمع تجاه الدين والجنس”، على الرغم من إمكانية التعبير السياسي بحرية أكبر. يحلم أليكس بتقديم عروض متنقلة في سوريا، لكنه ينتظر استقرار الأوضاع، مع وجود “تخوف من المجتمع أكثر من السلطة الحالية”.

يرى سفر أن نجاح التجربة الكوميدية الجديدة يكمن في “مدى تقبلها للنقد وفتحها الأبواب لحرية التعبير”. ويدعو نقابة الفنانين إلى أن تلعب دورها في “وضع أولوية الحرية قبل أي شيء آخر”. مع بدء “عجلة الإنتاج للموسم المقبل”، يترقب سفر ما ستؤول إليه الأمور وكيف ستعمل الرقابة وما هي الخطوط الحمراء الجديدة.

يؤكد أليكس أن سوريا المثالية للكوميديا هي التي يوجد بها “دولة قانون تحمي حرية السخرية”. ويتمنى أن يحضر الرئيس أحمد الشرع عروضه، معبراً عن استعداده لتقديم نكتة عنه في تلك الحالة، واثقاً على ما يبدو من أن الشرع سيتقبلها بصدر رحب.

أما حاجو، فيتمنى أن يرسم الرئيس الشرع، وأن يرسم بعد سنوات رئيساً آخر، في إشارة إلى أمله في أن تتحقق الديمقراطية وتداول السلطة في سوريا. كما يأمل أن يعيش ويعمل ويرسم من داخل سوريا وأن لا يضطر مجدداً للرحيل لكي يرسم بحرية من الخارج.

رغم التحديات الكثيرة، يعتبر أليكس هذه الفترة “فرصة تاريخية لتأسيس الستاند أب كوميدي في سوريا”. فالجمهور السوري “متعطش للنقد والضحك”، وقد يجد في الكوميديا متنفسًا له.

سفر بدوره يرى فرصة ذهبية لتأسيس مساحة أوسع لحرية التعبير والسخرية، في المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا، والتي يتوقع أن تنتج خطوطاً حمر جديدة، لكن هناك فرصة لدفع هذه الخطوط الحمر لتكون المساحة المتوفرة للنقد والسخرية أكثر اتساعاً.

الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى