الاخبار

الجزيرة السورية تُفاقم أزماتها

وكالة أوقات الشام الاخبارية / shaamtimes.com

خرجت الصراعات في الجزيرة السورية، عن كونها ذات طابع محلي، منذ أن فقدت دمشق السيطرة عليها، بسبب عجزها عن مواجهة كل النقاط الساخنة، التي أُشعلت بوجهها بعد بدء الحرب الإقليمية والدولية فيها، فكان لمسار الأحداث في الجزيرة خصوصية مختلفة عن بقية المناطق، بعد أن دخلت القوات الأميركية كقوة احتلال، شأنها شأن القوات التركية، فتحوّلت المنطقة منذ لحظة دخولها، إلى ساحة جديدة للصراع الدولي والإقليمي، بالاستناد إلى قوى محلية ذات امتدادات إقليمية، وخاصةً العشائر العربية والكرد، مما يتيح للطرفين قدرات من خارج حدود الجزيرة.

ومع إعلان قوات “قسد” عن انتهاء العمليات العسكرية في دير الزور، وتوجّه القائد العسكري لها، مظلوم عبدي، بالشكر للعشائر العربية التي وقفت مع “قسد” في الأزمة الأخيرة، برز السؤال الذي طرح نفسه بقوة، هل ستتوقّف النزاعات في الجزيرة السورية؟

وقال موقع الميادين نت أنه قد كان للجغرافيا السياسة لهذه المنطقة دور مهم في إعطائها أهميتها القصوى في هذه المرحلة، فموقعها على الحدود التركية، يجعلها ذات أهمية قصوى لتركيا، بما تعتبره تهديداً لأمنها القومي، بحكم وجود الكرد “الأوغلانيين” فيها، بامتداداتهم المؤثّرة في الداخل التركي، عدا عن مطامعها التاريخية فيها، وما تحتويه من موارد نفطية وغازية وزراعية، تُستخدم بشكل واسع في الحرب السورية كإحدى أدوات الصراع المهمة.

وهي مهمة جداً بالنسبة للأميركيين، فاحتلالهم لها، يمنحهم إمكانيات الضغط على تركيا، وضبط مساراتها السياسية، بصراعهم مع الروس والإيرانيين بشكل مباشر، ومع الصينيين بشكل غير مباشر، لإفشال “مبادرة الحزام والطريق”، ومن هنا كان اعتمادهم على قوات “قسد” كقوة عسكرية منظّمة، بعد أن تخلّت باستراتيجيتها العسكرية، عن الدخول بمواجهات مباشرة مع القوى العسكرية للدول.

بالمقابل يشكّل الكرد عنصراً أساسياً في نسيج منطقة الجزيرة السورية، إضافة إلى منطقة عفرين، وهم الوحيدون الذين يمتلكون قدرة تنظيمية موحّدة، معزّزة برؤية سياسية واضحة لأنفسهم في خِضمّ فوضى الرؤى السياسية، للقوى التي تعتبر نفسها في موقع المعارضة، عدا عن كونهم يطرحون مشروعاً سياسياً واضحاً لمستقبل سوريا، رغم أنه لا يمتلك مقوّمات نجاحه في أي حل سياسي للمسألة السورية، ذات البعد الإقليمي والدولي، والمرتبط بنتائج الصراع، واحتمالات التسوية الدولية الممكنة للصراعات، على مستوى أكثر من منطقة في العالم، بما يحفظ المصالح الإقليمية لدول الجوار وأمنها القومي، وبما يتناقض مع طموحات الكرد مع بعضهم البعض، أم  داخل كل دولة من الدول.

واستطاع الكرد ملء الفراغ الحاصل، نتيجة التراجع الكبير لسيطرة الدولة السورية على الأراضي السورية، إضافة إلى محاربة تنظيم “داعش” بدعم أميركي كامل، من السيطرة على الموارد النفطية والغازية والزراعية، مما مكّنهم من السيطرة على المفاصل السياسية والاقتصادية، للعمل على بناء تجربتهم السياسية الخاصة، التي لا تنسجم مع البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأبناء الجزيرة، التي يغلب عليها الطابع العشائري، الذي له أعرافه القانونية الخاصة، وروابطه الاجتماعية المختلفة، عدا عن كونهم قد لا يشكّلون أكثر من 15% من مجمل سكان المنطقة الممتدة من منبج إلى الرقة ودير الزور والحسكة (لا توجد إحصاءات علمية ورسمية حتى الآن).

بينما تشكّل العشائر العربية الموجودة في منطقة الجزيرة السورية، قرابة 85% من قاطني الجزيرة، وهي لا تجتمع على رأي واحد، وتغلب عليها الانقسامات فيما بينها، وخاصةً ما يتعلق بخياراتها السياسية، ورؤيتها لمستقبلها السياسي، مما يفقدها القدرة على تنظيم نفسها ضمن إطار واحد، رغم الجذور المشتركة لأغلب العشائر، وخاصةً عشائر العگيدات الزبيدية الطائية، المنتشرة في سوريا والعراق وقطر والبحرين، ولها قرابات مباشرة مع عشائر العزَّاوية في العراق وسوريا، إضافة إلى عشائر الدليم والجبور والبو سلطان واللهيب والعونان والجنابيّين.

ما إن انتهت الانتخابات التركية، واستمر حزب العدالة والتنمية والرئيس إردوغان بحكم تركيا، حتى بدأت الإدارة الأميركية بتغيير سياساتها تجاه تركيا، بعد أن أصبح الرئيس التركي رقماً   صعباً، لا يمكن للإدارة أن تتجاوزه، وهي التي تخوض حرباً بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، لها أهميتها القصوى في تحديد إمكانية استمرارها كقطب وحيد في النظام الدولي، وهي تحتاج لتركيا بشدة، لهزيمة روسيا في أوكرانيا والبحر الأسود.

وهذا الأمر اقتضى تقديم مكتسبات لها في سوريا، على حساب المستقبل السياسي لها، مما انعكس على استراتيجيتها في الجزيرة السورية، وضرورة إحداث توازن بين الكرد والعشائر العربية، بتحجيم دور قوات “قسد”، ومنح العشائر دوراً أكبر، مع العمل على منحهم كيانية سياسية مسيطرة على حقول النفط والغاز الغنية في دير الزور، إرضاءً لتركيا.

وكان هذا الأمر واضحاً من تصريحات ممثّلها في الجزيرة نيكولاس غرينغر، باجتماعه مع أحزاب “مسد”، وتأكيده أولوية تركيا أمام “قسد”، وامتناعه عن اتخاذ أي موقف تجاه عمليات الاغتيال التي تقوم بها، بما في ذلك العمليات التي تستهدف المدنيين.

توضّحت الصورة، منذ أن اندلعت الاشتباكات بين العشائر العربية، وفي مقدّمتها عشائر العگيدات، مع قوات “قسد”، وظهرت الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية للجزيرة السورية، فكل الأطراف المتصارعة عملت على تحقيق مكاسب مهمة في هذه الاشتباكات، فالولايات المتحدة صمتت عن الاشتباكات، ولم تظهر بموقع الداعم لأي طرف، وهي بهذا الموقف كانت من الناحية الفعلية مع العشائر، التي طالبها شيخ عشيرة العگيدات إبراهيم الهفل، بإخراج “قسد” من دير الزور والفصل بينهما.

ويعزّز هذا الرأي بروز التنافس بين أبناء الهفل، وسعيهم ليكونوا في مركز تسنّم مشيختها، فدعا مصعب الهفل المقيم في قطر لنفسه، بعد اجتماعه بالسفارة الأميركية في الدوحة، كما دعا لنفسه هفل الهفل، المقيم في واشنطن، بتأسيسه لحركة الحقوق المدنية، ومن قبلهم أدهم الهفل، الذي استُقبل استقبالاً حافلاً في العراق، وتمت تسميته شيخ مشايخ عشيرة العگيدات، والسباق بين الأربعة هو على تزعّم الكيانية التي تعمل على بنائها الولايات المتحدة في منطقة دير الزور، وبقية مناطق وجود العشائر العربية في الرقة والحسكة.

ودمشق المحاصرة والمهدّدة أيضاً، رأت في الاشتباكات فرصة لتعزيز وجودها هناك، للضغط على “قسد” من جهة وعلى الأميركيين من جهة أخرى، فعبر النهر أبناء عشائر العگيدات، مؤازرة لأبناء عشيرتهم، في وجه ما يعتبرونه مظالم الاستئثار بالإدارة والثروة، وحرمانهم من مقدّراتها، وهي بعودتها للجزيرة السورية تستطيع أن تخفّف من ضائقتها الاقتصادية، وتمنحها أوراقاً ضاغطة في المفاوضات المستمرة على المستوى الإقليمي والدولي.

كما أن تركيا وجدت في الاشتباكات فرصة لتعزيز وجودها، فحاولت السيطرة على مزيد من الأراضي في منطقة منبج، بإرسالها قوى عسكرية من الجيش الوطني، بحجة مؤازرة العشائر في معاركها، وهو الأمر الذي دفع بالطيران الروسي للتدخّل بقوة، ودفع هذه القوات للانسحاب من القرى التي احتلتها.

كلّ المؤشرات بعد خمود المعارك، بأن الصراع لن يتوقّف، وسيعود من جديد، وخاصةً بعد سقوط عدد غير قليل من الضحايا بين الطرفين، قد تجاوز الستين وفقاً لأرقام غير معلنة، كما أن تعدّد الأطراف المتضررة من استمرار “قسد” في سيطرتها على الأراضي والموارد، ستجد تقبّلاً من أبناء العشائر لتلقّي الدعم العسكري التسليحي والتدريبي واللوجستي، وهم الذين يعتبرون أنفسهم في موقع المظلومية والحرمان، ومغيّبين عن الشراكة في الإدارة والموارد.

وقد يكون تصريح وزير الخارجية التركي إبراهيم كالين “النزاعات في شرق سوريا هي البداية فقط”، أفصح تعبير عن المرحلة المقبلة، التي تلتقي بها مصالح الجميع على تحجيم “قسد”، استعداداً لحل سياسي، قد لا يكون لمصلحة السوريين على المدى البعيد، بما يحمله من عطالة ذاتية، إسوة بالعراق ولبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى